رحلة الإيمان عند الإيزيدية
من هم الإيزيديون..؟
أنهم أحفاد الذين سكنوا منذ نشأتهم في منطقة جبلية تعرف اليوم بكوردستان وبسبب البيئة الجبلية هذه، سموهم جيرانهم ( كورد)، وكانت البلاد حينذاك تعرف ببلاد الآريين (إيران) وكان أسلاف الإيزيدية بدورهم يسمونها بلاد الداسنيين (الد ئیڤسنیین) نسبة إلى أسم الإله ( د ئیڤا ـ مهاد يڤا ) رب أرباب الطبيعة وهو الله الذي نعبده اليوم، وفيما بعد سميت ببلاد(دو شاموس) ما معناه بلاد الشمس، وعرفت أبان الفتوحات الإسلامية ببلا (الإيزيدخانة)، وعرفها اليونانيون بأسم بلاد ( كاردوشو ـ ميزوبوتامية) وفي القرن الثاني عشر للميلاد عرفت ببلاد كوردستان، والعرب سموها بلاد الجزيرة..
تشير المصادر التاريخية القديمة إلى اسم أسلاف الإيزيديين القدامى بأسم " نيندرثال " وقد اكتشف أثارهم في كهوف كوردستان هذه الكهوف التي سكنها أسلاف الإيزيديين القدامى. تقع هذه البلاد في قلب المنطقة التي تقع غربي آسيا، ويمتد حدودها من بحيرة أورميا شرقاً، وإلى كورد داغ (عفرين) غرباً، ومن جبال أرارات (آگري) شمالاً وإلى لورستان جنوباً، وتشكل أضخم السلاسل الجبلية في غربي آسيا ( زاغروس، أرارات، طوروس) وهي العمود الفقري لموطن الإيزيدية/ كوردستان .
تأكد المصادر التاريخية على أن الإنسان البدائي ظهر في بلاد الداسنيين التي سميت كوردستان بحدود مليون عام( ق.م). وهنالك جملة عوامل التي ساعدته أن يقاوم من أجل الثبات في هذه البلاد، نذكر منها: طبيعة كوردستان الجبلية والهضاب والسهول المنتشرة فيها إلى جانب خصوبة التربة ووفرة مصادر المياه من أنهار وينابيع وأمطار والمناخ الملائم وكثرة النباتات والأعشاب والأشجار البرية. (1)
نشأة الديانة الإيزيدية
تعريف الدين: يتفق أصحاب المعرفة بأن الدين نابع من شعور الإنسان بوجود قوة خفية أقوى منه ، فيلجأ إليها إما من الضعف أو من الخوف أو من باب الرجاء لتحسين وضعه، وهذا يتوقف على رؤية هؤلاء الناس للدين، واهتمام الإنسان بالدين جعله يشعر بشيء من الأمان، وخاصة حينما كانت تتحقق بعض أمنياته.
وأما الجانب الروحي، فطبعا لم تنزل على الإنسان ديانة، وإنما هو الذي قام باختراعها مثل الأصنام والنار والشمس والكواكب وغيرها، وأما الجانب الغيبي فأن الإنسان يحب أن يشعر بأن يكون لأفعاله الخيرة جزاءه ًخيراً ولأفعاله الشريرة جزاءًه شراًً، فهذه الحكمة معروفة عند الداسنيين الإيزيديين منذ آمد طويل، فهم أصحاب المقولة ( خير كني بخۆ كني، وشر كني بخۆ كني) المعنى: من فعل الخير فهو له، ومن فعل الشر فهو له.
يقول هنري برجسون: أن الدين البدائي هو وقاية من الخطر الذي يتعرض له الإنسان الذي لا يفكر إلا في نفسه، وعلى هذا فهو رد فعل دفاعي يقاوم به الطبيعة، ويضيف قائلا أن الدين رد فعل العقل باستحالة اجتناب الموت، وهو يعني المجتمع كما يعني الفرد، لأن المجتمع يستفيد من جهد الفرد حينما يتجاوز الجهد حدود الذات، إذا لم تعرقل مسيرته فكرة فناءه. (2)
المرحلة الإيمانية الأولى
مرحلة الحيرة والدهشة والبحث
بدأت الرحلة هذه وسط الحيرة والدهشة التي اخطرقت مشاعر الإنسان، فكانت البداية التي اقتحمت حياة أسلاف الداسنيين الإيزيديين الثابتون في الكهوف الجبلية. وحسب رأي علماء علم الأجناس أن الإنسان في بدايته كان بسيطاً في تفكيره وبسيطا في استيعابه لمظاهر الطبيعية كالليل والنهار، المطر، الرعد والبرق وما شابه ذلك، فكانت الظواهر تثير في نفسه الخوف والرعب، ولما عجز عن تفسير هذه الظواهر، فعزاها إلى قوة خارقة التي تتحكم في حياته، ولم تكن القوة الخارقة هذه محسوسة لديه، وبمعنى آخر، كانت القوة الخارقة هذه ما وراء الطبيعة أي قوة "ميتافيزيقية"، وخرج الإنسان البدائي يعتقد بوجود كيان روحي فائق القدرة يتحكم في الظواهر الطبيعية وفي حياته أيضا. فكانت هذه بداية الأفكار التي أسست الأديان عند الإنسان البدائي ومنهم أسلاف الإيزيدية.(3)
يقول المثل: إن الحاجة أم الاختراع، وهذا ما فعله الإنسان حينما اخترع العبادة، فقدس القوى الخفية القديرة بغية المساعدة والاستعانة بها في مواجه وحش الموت ودرء الخطر عنه، وأيضا لكي يشعر بالأمان والطمأنينة، وليجد أيضا عند المقدس السلوى و العزاء، وجزء من عبادة الإنسان كانت بدافع الشكر الامتنان للجوانب الإيجابية في حياته. هكذا آمن أسلاف الإيزيدية بوجود قوى خفية قديرة في الأرض وفي السماء، فاعتقدوا أنها تأثر على حياتهم وتتحكم في مصيرهم، وأنها وراء أحلامهم وموتهم ومصائبهم، فسارعوا لإرضائها بالعبادة والولاء وقدموا لها النذور المختلفة، وعبدوا الأشجار والأنهار والينابيع والحيوان والجبال والوديان الصخور، وكل الأشياء التي ألتي وقفت وراء دهشتهم ونالت إعجابهم وأخافتهم. وكانت عبادة أسلاف الإيزيدية المقدسات الأرضية بمثابة قواعد أرضية ترفع أصواتهم إلى القوة الخفية العظمى في السماء. ولم تكن عبادة أسلاف الإيزيدية لمادة المقدسات الأرضية المجردة وإنما للقوة الخفية التي اعتقدوا بوجودها في تلك المودة..
المرحلة الإيمانية الثانية
عبادة الأمومة الأرضية
أدرك الإنسان منذ القدم أن بقاءه يتوقف على أمرين أساسيين، وهما: الغذاء والتناسل، فبدون الغذاء يموت جوعا، وبدون التناسل يفنى جنسه تماما، ومن هذا المنطلق قدس الإنسان القديم ومنهم أسلاف الإيزيدية، كوكب الأرض الذي يلد الغذاء لجميع المخلوقات، وقدسوا المرأة الأم لأنها تملك الحليب الذي ينبع من صدرها.
وحينما ظهرت الزراعة البدائية التي بدأتها المرأة، وجد الإنسان في الأرض (رؤوما كبرى) فهي التي تحمل روح الخصوبة وهي تغذيه، فيخرج الزرع من بطنها كما يخرج الوليد من بطن أمه، فهي إذاً الأم الحاملة والمولودة ومانحة الحياة ومنجبتها، وما إخصاب التربة إلا نوع نوع من الميلاد المتجدد، مما حدا بعقل الإنسان إلى عبادة الأرض وتقديسها، وأعتبرها قوة أنثوية خالقة.
اختلفت أسماء هذه الظاهرة باختلاف المهمة التي تقوم بها، فهي في بلاد ما بين النهرين كانت (نينتو) التي كانت إلهة الولادة والمخاض تحت اسم (ماما أو مامي)، والتي تقوم بفعل خلق الكائنات. ولا زال الهنود الحمر في أمريكا الشمالية يقدسون الأرض، ويعبدونها على أنها الأم، فهذه ثلاثة أبيات من ترتيلة الأرض الأم.. إليك يعود أيتها الأرض أن تعطي الحياة للأموات مثلما يعود إليك أن تأخذيها. (4)
وفق المنظور الديني لهذه المرحلة، قدس أسلاف الإيزيدية الأوائل الأرض كأم لهم ولجميع الكائنات الحية النباتية والحيوانية باسم (ماك) والكلمة هذه مشتقة من كلمة (ماما أو مامي) التي قدسها السومريون كأم لهم، ومن آثار هذه قدسية عند الإيزيديين أنهم لا زالوا يقسمون بالأرض قبل السماء كقولهم: (ب ڤي عهردي، ڤي عهزماني)، فأن القسم بالأرض قبل السماء لم يكن أعطباني بل لأنهم بالفعل قدسوا الأرض كأمومة قبل السماء، وهذه الفقرات من النص الديني المسمى (عهرد و عهزمان) يؤكد هذا المعنى: خهلكۆ ل خۆ ب فهكرهن / يا أيها الناس فكروا بأنفسكم بهدشای چاوا عهرد چێكر/ كيف خلق الله الأرض وعهزمان سهر داني / ووضع السماء فوقها
و النص المذكور هذا عبارة عن حوار بين الأرض والسماء، وكل منها تمتدح دورها الكوني، تقول السماء: أيتها الأرض أنا أكبر منك وقوتي الخفية أقوى من التي عندك، وأنا مخلوقة فوقك وأرى كل أعمالك وأنا شاهدة على ما يجري فوقك، بينما أنت لا ترين أعمالي لأني لست مكشوفة لك، ومخلوقاتي أشباح نورانية وروحانية لا تأكل ولا تشرب فهي بالتالي لا تخطأ..
وتجيب الأرض قائلة: أيتها السماء خلقت قبلك وقبل المخلوقات جميعا، وأنا التي خلقت جميع المخلوقات التي تعيش فوقي، وأنا أم الجميع، ومن دوني لا يعيش الحيوان ولا النبات ولا الإنسان، ومخلوقاتي تأكل وتشرب ولها نفس وشهوة، فبأي ألاء تفضلين نفسك عليا.
وحول أسبقية الأرض في الخلق (5)، يخبرنا الدليل ألقولي في ذات النص وهو ( قهلێ عهرد ۆ عهزمانه) عبر هذه الفقرات، تقول الأرض: ب قدرتا یهکی بێريا / بقدرة الواحد الباري ببرسن خهلكێ هونه / أسئلوا من حولكم كهچاوا ئهف عهرد راۆهستابۆ بێ ستونه/ كيف وقفت الأرض من دون أعمدة...وتواصل الأرض حوارها مع السماء قائلة: عهرد دبێژت: عهزمانۆ / تقول الأرض أيتها السماء ئهسلێ من ؤ تا ژدرهكێ / أصلي وأصلك من درة واحدة ئهم نژياركهرن ژجًًهوههرهكێ / نحن خلقنا من جوهرة واحدة شفقه ل مهتكر ژدرهكێ / إنبثقنا من درة واحدة شفقه ل مهتكر جهبێرا / بثقنا الجبار ئهم خلقاندهن ژێرا / خلقنا في العلا سهرمن پيدابون نازۆ نعمهت ؤ خێرا / ظهرت فوقي الطيبات والنعم والخير.. سهرمن پيدابون نازۆ نعهمت ديسا / تكرار لذات الفقرة چهندی بهندێ كران سهرمن داتينێن/ أحمل الأثقال كلها چيقاس مهخلوق ئی ب جانه ژمن بينت خێرا / تجد مني جميع المخلوقات الخير.. وتواصل الأرض قائلة:ُ عهرد، دبێژت: ئهز عهردهم عهردێ درۆێش/ تقول الأرض: أنا أرض الدراويش والأولياء سهرمن دكرێت چوق ۆ جملهت وجێش / تسير عليا الوحوش والقوافل والجيوش. كهسهك ب روحه كبار ناچتا بێش دينداره مير/ لا يستطيع أحدا بروح تكبر من مواجه الرب الأمير. ژقدرهتا مهلكێ جهليل / بقدرة ملك الجليل سهرمن هيا نور و قهنديل/ أحمل الأنوار والقناديل..
بهذه المناسبة يقول رجل الدين شيخ ملو: أن الأرض بالنسبة لنا نحن الإيزيديون هي مركز الكون، وهي مقدسة عندنا جدا، وهي التي توفر لنا جميع الخيرات والنعم من المأكولات والمشارب، ونحن نتغذى منها كما يتغذى الطفل من ثدي أمه، ومن دون الغذاء نموت جوعا، ومثلنا كمثل الطفل الذي من دون حليب الأم يموت جوعا.
ويضيف الشيخ قائلا: خلق الله جسم الإنسان من التراب وإلى التراب يعود، وكل الأشياء المصنوعة من التراب محكومة بالموت أيضا وإلى التراب تعود، ولهذا وذاك نقول: بأن الأرض هي أساس الحياة وبالتالي هي أم الأحياء والزمن والفصول.
فلو نظرنا إلى الربيع و الشتاء والصيف والأشهر، لأدركنا أن الأرض هي الأمومة العظمى، وهذه بعض الفقرات من النص الديني المسمى ( قهولى زهبۆنئ مهكسور) التي تأكد على أن الأجناس كلها خلقت من تراب الأرض.. مالا ئاديا شههديا / يشهد بيت الأدي ما كانيا سبی قهبلتا / بأن عين البيضاء قبلتنا جنسێ ما ئيش ئاخێا / جنسنا من التراب.(5)
المرحلة الإيمانية الثالثة
الأمومة الكونية (ماكه كه نياتى)
أدرك الإنسان بعد أن خطا خطوة أخرى في مدارج تفكيره أن فكرة الخصوبة هي سر تكاثر النبات والحيوان والإنسان على حد سواء، وأنها لم تعد تقتصر على التراب وحسب، ولذا عزا ظاهرة الإخصاب والتكاثر إلى قوى إلهية، ومثلها في إلهة واحدة هي إلهة أنثى، ولأن العطاء والإخصاب والميلاد كلها من خصائصها، وأطلق على هذه الإلهة الكونية اسم الإلهة الأم أو سيدة الطبيعة، فوجد في المرأة المخصبة رديفا للأرض المخصبة وصنوا لها، باعتبارها مصدر الحياة وراعية الخصب الجسدي والولادة والتكاثر، ولم يعرف دور الرجل في الإخصاب بعد.
ومن جسد المرأة تنشأ حياة جديدة، ومن صدرها ينبع حليب الحياة، وخصبها وما تفيض به أطفالها هو خصب الطبيعة التي تهب العشب معاشا لقطعان الصيد وثمار الشجر غذاء البشر، وعنها تصدر الموجودات وإلى رحمها يؤول كل شيء كما صدر, فظهرت الإلهة الأم الأنثى ممثلة للقوة العظمى، فتضم الكون بين حناياها كما تضم المرأة وليدها. (7)
وكانت الطبيعة المبشر الأول للدين عند البشرية ومنهم أسلاف الإيزيدية، فأخذت رحلة الإيمان عندهم تشق طريقها إلى الأمام ، واستطاعت الصحوة الإيمانية والتجربة العملية الدؤبة في ميادين التأمل والتقوى والعبادة أن تستثمر إلى ظهور طائفة كهنوتية كفوءة قديرة وسط الأسلاف الإيزيدية. ومن ظاهرة الموت والنوم والأحلام، خلص هؤلاء الكهان أللأسلاف إلى نتيجة مهمة على طريق التوحيد، وهي لكل كيان مادي هيكل روحي يلازمه مهما كان حجمه ونوعه، وبعبارة أدق قالوا: لكل كتلة هيكل روحي خفي سموها أرباب الكتل أو أرباب الأنواع (خودان) وأما الآخرون الذين عاصروهم، سموا الأرباب آلهة.
أعتقد هؤلاء الكهان بأن قدرات الأرباب خفية وفائقة، وهي تتفاوت بين رب نوع وأخر، ومنها رب الأرض وأرباب الأنواع التي فوقها ورب السماء وأرباب الظواهر الطبيعة وأرباب الكواكب والنجوم كلها تخضع إلى قوة خفية خارقة واحدة، وحسب المرحلة التي نبحث فيها، كانت القوة الخارقة الخفية مؤنثة وهي أم الأرباب وربة الأرباب وإلهة الأرباب وأم الكون.
ارتبطت فكرة الأمومة في المجتمعات القديمة ومنها المجتمع الداسني الإيزيدي بالآلوهية، وظهرت هذه العقيدة كما ذكرنا نتيجة اعتقادهم بأن المرأة هي التي تنجب بذاتها أي أنها مصدر الخلق ، فانتشرت أسماء الإلهة الأنثى في محيط إلهة الأمومة بمسميات مختلفة عند الأقوام الأخرى، منهم السومريون والبابليون والأشوريون والإيرانيون..
ولدى الإيزيديين ظهرت إلهة أنثى كأمومة كونية (ماكا، كه نياتى) وعرفت الإلوهية منذ تلك الفترة بأسم (الپيرانية)، وهي تجمع بين إلوهية الأمومة الكونية التي تجسدها الأمومة البشرية، وبين إلوهية الأبوة الكونية التي يجسدها الأبوة البشرية، وهنا يكمن المربط الإيماني الذي يربط الإنسان بالطبيعة اللاهوتية، فسبقت ابنة الإنسان أبن الإنسان في التأله ومثلت دور إلوهية الأمومة، وهذا المعتقد فتح الباب على مصراعيه أمام تأله الإنسان سواء كان أنثى أو ذكر، وارتبطا الجنسان بالقوة الإلوهية كناسوت متحد مع الطبيعة اللاهوتية وفق منظور التجسيد.(8)
كانت المرأة بالنسبة للإيزيدية پيرة ومرشدة وزعيمة عشيرة وزعيمة مجتمع. وكانت تعمل ولا تكل من العمل، فعملت في الزراعة وكان لها علاقة في تكوين الزراعة ومن بدء وضع البذار في التربة وسقايتها ومتابعة أنبات البذرات حتى الحصاد، و كانت ترمز إلى الأرض كأم يتعلق بها الزراعة. ولا يزال الإيزيديون يحتفلون بطقوس دفن البذور تحت الأرض تحت اسم ( بێلندا گۆركا گای). و المرأة هي التي كانت تختار أزواجها و تتزوج أكثر من رجل، والأولاد كانوا يكنون باسمها بدلا من أسم أبيهم، والإيزيديون ورثوا هذا التقليد، والباحث يستطيع أن يكتشف هذه الحقيقة إذا ما راجع مراسيم عقد الزواج عند الإيزيدية، حيث ينظم العقد بأسم الأم من دون أسم الأب وأنا أحتفظ بنسخة منه.
المرحلة الإيمانية الرابعة
إله الشمس إله الأبوة الكونية
قبل ظهور الذكر يكاد دارسوا الميثولوجيات يجمعون على أسبقية العبادات القمرية على الشمسية، وارتباط العبادات القمرية بالمرأة سيدة الإلوهة المؤنثة، بينما يرتبط الانقلاب الشمسي وديانته بالسيادة الذكرية، ومما يؤيد أسبقية المجتمع الأمومي على المجتمع الأبوي.
يرث الإيزيديون مفهوم وراثي يختلف تمتما عن مفاهيم الأمم الأخرى، وهو أن الإلوهة الخالقة مهما كانت المسميات هي واحدة، سواء كانت بصيغة مؤنثة أو بصيغة مذكر، من هذا المنطلق عرفت الآلوهة الخالقة في عصر الأمومة بصيغة مؤنثة، وفي عصر الأبوة عرفت الآلوهة بصيغة مذكر.
وسنتعرف على الموضع أكثر عندما نتطلع على معنى الأمومة والطفولة كما وردت في نصوص الديانة الإيزيدية، وببساطة نحن نفهم الأمومة والطفولة من زاويتها التقليدية ونجهل الجانب الجوهري منها. نعم المرأة تنجب الأطفال وهي راعية أطفالها، وننسى بأن الأب والأم أمومة جوهرية واحدة وهي لا تتجزأ.
وكما ذكرنا يرث الإيزيديون منظور أمومي فريد من نوعه بين الأمم، وهو يتلخص بالعبارة الرمزية القائلة: (داي و دوت)، ومعناها لغويا "الأم والابنة" وأما المعنى الجوهري فهو " الأب والابن " وحسب هذا المنظور تكون الأمومة تارة مؤنثة وتارة أخرى مذكرة وحسب المقصد والظرف، وللمزيد من التوضيح ندرج هذه الفقرة القولية من (قه لێ ئێزدي نمير) كما أخبرنا الدليل لقولي:
هکه، دايی، نبا رده، داي، بۆ، دۆتێ، نهتبۆ، مريد ) المعنى: لو لم ترضى الأم مسبقا لما أصبحت الأم مريدة أبنها. ووفق هذا المنظور انتقلت السلطة من " الأمومة الكونية" إلى "الأبوة الكونية" و جوهر الآلوهة لم يتغير، ويبقى من الناحية البشرية عند الإيزيدية بأن الرجل لا يرث المرأة الزوجة، والرجل الابن هو يرث المرأة الأم.
عبد الناس الشمس العظيمة لأنها بمثابة الوالد الذي نفخ الحياة في كل شيء حي. وقدس أسلاف الإيزيدية قرص الشمس الوهاج أسوة بالشعوب المجاورة السامية والآرية، فقدس الأشوريون قرص الشمس بأسم إله آشور وهو في صورة قرص ينبعث منه لهيب النار وله جناحان ناريان. ويقدس المسيحيون قرص الشمس بقولهم: بأسم القرص بأسم النور بأسم حرارة القرص الشمس الواحدة آمين رمز السر الإلهي..
وتأثرت مفاهيم آلهة الفرس كثيرا بلاهوت آلهة بلاد النهرين، فالإله الأعظم عند الفرس على سبيل المثال،إله آهورا مزدا أصبح يمثل بالقرص المجنح للإله آشور، وكذلك الآلهة الأم الفارسية (أناهيدا) تبنت لاهوت وأشكال آلهة ما بين النهرين (عشتار)، وهذا ما حدث أيضا للإله مترا الذي تبنى لاهوت إله (نابو ونينورتا) المتمثل بالإله الأعظم والإله المخلص عند الأشوريين. (9)
وقدس الآريون إله الشمس بأسم (خور) وأمنوا به كإله معطي بأسم (خوردا) و بمرور الزمن حذف حرف (الرا) من الكلمة ، فتغير لفظة الجلالة إلى (خودا). جسد الأقدمون إله الشمس على شكل هلالات معدنية وصورها حول رؤوس القدسيين، وقدس اليابانيون إمبراطورهم لاعتقادهم أنه يجسد إله الشمس، وعلى هذا النحو قدس الإيزيديون طائر الطاؤوس ذو الأجنحة النارية، متمثلا في تمثال الطاؤوس الذي قدس منذ آمد طويل، وأنه رمز يجسد إله الشمس خودا.
ولا يعرف أحدا كيف ومتى صنع تمثال الطاؤوس، ولكني لا أخفي سره، فهو مصنوع من مادة برنزية ومصنوع على هيئة طائر الطاؤوس، وهو يحمل رموز شمسية واضحة، ويتكون من ثلاثة أجزاء، أولا ـــــ الرأس: وهو يشبه طير الطاؤوس وذيله قصير وفي عنقه طوق شمسي وعلى صدره صليب متساوي الأطراف وهو رمز الشمس الذي يرمز إلى الجهات الأربعة.
ثانياـ المسند: وهو عبارة عن أسطوانة برنزية مجوفة، طوله لا يتجاوز أرعين (سم) وقطره لا يتجاوز ثلاثة (سم)، وهو منفوخ كروي الشكل من ثلاثة أبعاد، و تكاد تكون الإبعاد متساوية، والكرات الثلاثة ترمز إلى ألإلوهية.
ثالثا ــ القائدة: وهي شبكة مدورة يرتكز عليها عمود التمثال، وهي من نفس المادة و ترمز إلى قرص الشمس.
ذكرت سابقا بأن مصطلح الپيرانية يشمل آلوهية الأمومة الكونية وإلوهية الأبوة الكونية، ومن هذه البداية عبد أسلاف الإيزيدية (پيرانية) الهيكل النوراني لما وراء قرص الشمس وهو الإله الذي له من الأسماء ألف أسم وأسم، وأسمه الأكبر هو " خودا " وثالوثه الأعظم هو: ( خودا، طاؤوس ملك، ئیزی)، والإيزيديون يلفظون أسم الجلالة (ئێزی) تحت مسميات متشابه وذات معنى واحد وهي: ئيزيد, ئيزيدا، ئهزدا، ئهزدان، يزدان.
يرتبط أسم الجلالة طاؤوس ملك بالپرانية حيث تصفه المصادر الدينية بأسم ( پيرێ كار) ومعناه (الإله الخالق) وتصفه أيضا بأسم ( پیرێ کال ) ومعناه: الإله الأكبر أو الإله العظيم، وتصفه أيضا بأسم (پیرێ ٍٍشهمس) ومعناه إله الشمس، والشمس أسم من أسماء الله الشديد القدسية، وهذه القدسية نجدها في النص الديني بأسم (شێشمش) ومن خلال هذه الفقرات كما أخبرنا الدليل القولي:
يا شێشمس تو ئي رهحيمی / يا شمس أنت الرحيم
تۆ خالقێ منی ژ قهديمی / أنت خالقي منذ القدم
تۆ ل حهمۆ دهردا ئی حهکيمی / أنت حكيم لكل داء
يا شێشمس تو ئي ره حمانی / يا شمس أنت الرحيم
تؤ خالقێ منی جانی / أنت خالق كياني
تۆ ل حهمۆ دهرداي دهرمانی / أنت دواء لكل داء
يا شێشمس تۆ مهڤری / يا شمس أنت المخلص
تۆ خالقێ منی ههر وههری / أنت خالقي الأزلي
تۆ رسقه دهى تۆ رسقه دبهي/ أنت مانح الأرزاق و قاطعها
ههرا عهربا ههرا عهجما / أذهب إلى العرب وإلى العجم
ئهوان ب شێشمس ههبت كهرما / هم أيضا ينشدون الرحمة من الله. (10) لم تكتمل فصول رحلة الإيمان الإيزيدية إلا بعد أن خضعت لمجهر التمحيص والتدقيق والتجديد من قبل شيوخ بيت ألعدوي الذين شاخوا على وادي لالش وعلى الإيزيدية في فترة زمنية معروفة، وغلقت فصول الرحلة الإيمانية تزامنا مع مقتل الشيخ حسن ألعدوي في حوادث عام 644ﻫ..
المصادر: 1ـ منشأ الكورد وتاريخهم / أعداد كاوا للثقافة الكوردية 2ـ كوكل/ شبكة الفينا المعلوماتية 3ـ تايلر الإنكليزي خبير علم الأجناس).( تراث وفقه/ الجزء الثاني/ الفصل الأول/ بقلم كامل النجار) 4ـ مجلة جامعة النجاح للأبحاث المجلد 15،2001 (برغرتن الباع مراني / الحوار المتمدن )
(5) الفكرة موروثة منذ زمن سومر، فهم الذين قالوا لم تكن السماء في البدء، وكانت الأرض تطوف على وجه الماء. والتوراة يقول نفس الكلام.
6ـ أجريت حديث مع رجل دين الشيخ ملو السنجاري بواسطة التلفون حول فكرة النص (عهرد وعهزمان) واستخلص لي الحوار بين الأرض والسماء وهو مشكور.. 7ـ ﺼﺩﻯ ﻋﺸﺘﺎﺭ ﻓﻲ ﺍﻟﺸﻌﺭ ﺍﻟﺠﺎﻫﻠﻲ/ كوكل 8ـ صدى عشتار في الشعر الجاهلي/ إحسان الديك/ جامعة النجاح الوطني، نابلس، فلسطين.
9ـ الإرث الحضاري لبلاد ما بين النهرين واستمرارية تأثيره في الحضارات العالمية.
10ـ العالم فقيرحجي بن فقير شمو. -----
ملاحظة: يتساءل أبناء الإيزيدية عن تاريخ نصوص دينهم ومنها نص ( عهرد و عهزمان) والنص (شێشمس). أن الذي يطلع على نصوص الديانة الإيزيدية، يجد تأثير اللغة العربية والثقافة العربية واضحة على النصين وعلى العديد من النصوص الدينية الأخرى، ومصدر هذا التأثير هو بيت ألعدوي الذي أعاد تنظيم النصوص وفق روح عصرهم ووفق ثقافتهم الصوفية، فلم يكن لهم ثقافة بديلة عن الثقافة العربية لكي يعتمدوا عليها.
وكما نلاحظ فأن تاريخ النص ولغة النص لا يتجاوزان عهد البيت ألعدوي، وأما أفكار النصين والنصوص الأخرى، فهي تمتد إلى تاريخ أسلاف الإيزيديين القدامى، حصرا بين مرحلة الصيد و دور سيادة المرأة على الأسرة والقبيلة والمجتمع، ودور سيادة الرجل على القبيلة والمجتمع، فتناقلت الأفكار كموروث وهو يشق طريقه إلينا من تلك الحقبة الزمنية الطويلة.
الباحث أبو أزاد ميونيخ / في 1/1/2011
0 التعليقات